كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَذَا وَإِنَّ قِرَاءَةَ {فَرَّقُوا} وَحْدَهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ تَفَرُّقٍ فِي الدِّينِ مُفَارَقَةٌ لَهُ وَرِدَّةٌ عَنْهُ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ {فَارَقُوا}، فَالظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْمُفَارَقَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي سُورَةِ الرُّومِ: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [30: 31، 32] وَفِيهَا الْقِرَاءَتَانِ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيئًا مِنْهُمْ تَحْذِيرُ أُمَّتِهِ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ بِالْأَوْلَى لَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ الْمُضِلِّينَ مِنْ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ وَأَفْعَالِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ فَإِذَا تَلَبَّسَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ فِيهِ كَحُكْمِ مَنْ قَبْلَهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ وَالْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَضِمْنَ لَهُمْ جَنَّتَهُ وَرِضْوَانَهُ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إِلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا هَدْمٌ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَةِ الْمُهْتَدِينَ بِهِمَا مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ الْمُفَرِّقِينَ لِدِينِهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أَيْ إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى وَحْدَهُ أَمْرَ جَزَائِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِهِمْ وَالتَّفْرِيقِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنْ ضَعْفِ الْمُتَفَرِّقِينَ، وَفَشَلِ الْمُتَنَازِعِينَ، وَتَسَلُّطِ الْأَقْوِيَاءِ عَلَيْهِمْ وَلُبْسِهِمْ شِيَعًا يُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، بِمَا تُثِيرُهُ عَدَاوَةُ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاتُلِ وَالْحُرُوبِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} [2: 253] إِلَخْ وَقَوْلِهِ: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [5: 14] وَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [6: 65] إِلَخْ وَبَعْدَ تَعْذِيبِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا يَبْعَثُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ بِتَفْرِيقِ الدِّينِ، أَوْ مُفَارَقَتِهِ اتِّبَاعًا لِلْأَهْوَاءِ وَمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي النَّارِ.
تَطْبِيقٌ أَوْ طِبَاقٌ فِي أَسْبَابِ افْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ. لِافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَمَا تَبِعَهُ مِنْ ضَعْفِهَا فِي دُنْيَاهَا أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ كُلِّيَّةٍ:
(1) السِّيَاسَةُ وَالتَّنَازُعُ عَلَى الْمُلْكِ.
(2) عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ.
(3) عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.
(4) الْقَوْلُ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ.
وَهُنَاكَ سَبَبٌ خَامِسٌ قَدْ دَخَلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَهُوَ دَسَائِسُ أَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ وَكَيْدُهُمْ لَهُ.
فَالْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ أَصْلٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَقِفُ عِنْدَهُ، وَآرَاءُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَشُئُونِ الْمَعِيشَةِ وَأَحْوَالِ الِاجْتِمَاعِ. وَالدِّينُ فِي عَقَائِدِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ مُوحًى مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَمِنْ فَوَائِدِهِ الْمَدَنِيَّةِ جَمْعُ قُلُوبِ الْأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ بِأَقْوَى الرَّوَابِطِ وَأَوْثَقِ الْعُرَى الثَّابِتَةِ. وَالرَّأْيُ يُفَرِّقُهَا؛ إِذْ قَلَّمَا يَتَّفِقُ شَخْصَانِ مُسْتَقِلَّانِ فِيهِ، فَأَنَّى تَتَّفِقُ الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ وَاجْتِمَاعُ الْكَثِيرِينَ بِالتَّقْلِيدِ يَسْتَلْزِمُ تَفَرُّقًا شَرًّا مِنَ التَّفَرُّقِ فِي الرَّأْيِ عَنْ دَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ تَفَرُّقُ جَهْلٍ لَا مَطْمَعَ فِي تَلَافِي ضَرَرِهِ إِلَّا بِزَوَالِهِ.
تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي تَفَرُّقِ الْمَذَاهِبِ وَخَصُّوهُ بِالتَّفَرُّقِ فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا دُونَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَالتَّحْقِيقُ الْعُمُومُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَأَنَّهُمْ تَعَادَوْا فِي الدِّينِ تَعَادِيًا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَعْفِهِ وَضَعْفِ أَهْلِهِ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُمْ دُونَ ضَرَرِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ مُتَعَصِّبِيهِمْ أَدْخَلُوا خِلَافَ الْأُصُولِ فِي الْفُرُوعِ فَجَعَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ التَّزَوُّجَ بِالشَّافِعِيَّةِ مَحَلَّ نَظَرٍ؛ لِأَنَّهَا تَشُكُّ فِي إِيمَانِهَا. وَعَلَّلَ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ بِقِيَاسِهَا عَلَى الذِّمِّيَّةِ، وَمُرَادُهُمْ بِشَكِّ الشَّافِعِيَّةِ أَوْ جَمِيعِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْأَثَرِ فِي إِيمَانِهِمْ؛ قَوْلُهُمُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللهُ! وَلَوْ سَلَكَ الْخَلَفُ فِي الدِّينِ مَسْلَكَ السَّلَفِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى فَهْمِهِمَا بِكُلِّ عَالِمٍ ثِقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ لِعَالِمٍ مُعَيَّنٍ، لَمَا وَقَعُوا فِي هَذَا الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْجَهْلِ بِهِمَا وَهَجْرِهِمَا، وَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ يُزِيلُهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَلَا يُوجِبُ تَفَرُّقًا.
وَقَدْ بَدَأَ أَصْحَابُ كُتُبِ الْمَقَالَاتِ الْكَلَامِيَّةِ بِحْثَ التَّفَرُّقِ وَالشِّيَعِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: «إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ لِصَاحِبِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ بِصَاحِبِهِ) لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مِفْصَلٌ إِلَّا دَخَلَهُ» أَيِ الْكَلَبُ وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ الدَّاءُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْكِلَابِ وَلِمَنْ عَضَّهُ الْمُصَابُ بِهِ مِنْهَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَوَّلُهُ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ.. وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَعَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بِالْجَمَاعَةِ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ بِلَفْظِ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ» وَقَفَّى عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ بِمَا رُوِيَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَسْأَلَةَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّاطِبِيُّ الْوَجْهَ الْخَامِسَ مِمَّا وَرَدَ فِي النَّقْلِ مِنْ ذَمِّ الْبِدَعِ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ غَيْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ؛ إِذِ الْبِدَعُ كُلُّهَا كَذَلِكَ. كَمَا وَعَدَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا، فَذَكَرَ حَدِيثَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَعِدَّةَ آثَارٍ بِمَعْنَاهُ وَرَجَّحَ شُمُولَ ذَلِكَ لِمَا كَانَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ جَمِيعًا كَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَنَقَلَ بَعْضَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ آثَارِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ إِلَّا إِنْحَاءَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَمِنْ أَحْسَنِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَ آثَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَّبِعَ الرَّأْيَ؛ فَإِنَّهُ مَتَى اتُّبِعَ الرَّأْيُ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْكَ فَاتَّبَعْتَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَكَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هَذَا لَا يَتِمُّ اهـ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَذَا الرَّأْيَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ دُونَ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَاءِ؛ فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ فِي هَذَا كَمَا بَيَّنَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ (الِاعْتِصَامِ) أَحْسَنَ بَيَانٍ. وَقَدْ قَالَ هَاهُنَا: إِنَّ الْآثَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَيْسَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَخْصُوصَةً بِالرَّأْيِ فِي الِاعْتِقَادِ.
أَقُولُ: وَهَذَا مَذْهَبُنَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَقَدْ حَقَّقَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنَ الِاعْتِصَامِ (ج3) أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ آية: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [11: 118، 119] وَالْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إِجْمَاعَ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لَهُمْ فَيَكُونُونَ شِيَعًا وَأَحْزَابًا يَتَفَرَّقُونَ وَيَتَعَادَوْنَ فِي ذَلِكَ فَهُمْ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ كَعُذْرِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ قَالُوا وَعَمِلُوا بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَلَمْ يَكُونُوا يُجِيزُونَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِمْ فَصَارَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الْحُكْمِ. فَهَلْ يُجِيزُونَ لِشِيعَةٍ أَوْ حِزْبٍ أَنْ يَتَعَصَّبَ وَيُعَادِيَ وَيُخَاصِمَ وَيُفَرِّقَ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ انْتِصَارًا لِظُنُونِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَرْجِعُونَ عَنْهَا إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيهَا؟!.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ حَدِيثَ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، وَزَادَ رِوَايَةً رَآهَا فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ جَعَلَ فِيهَا الْفِرَقَ 82- إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْلُ غَلَطًا مِنَ النُّسَّاخِ- وَقَالَ: كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً. فَسَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: «الْجَمَاعَةُ». ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنْ حَقِيقَةِ الِافْتِرَاقِ وَأَسْبَابِهِ وَاسْتِشْكَالِ كُفْرِ هَذِهِ الْفِرَقِ مَا عَدَا وَاحِدَةً مِنْهَا. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ كُلَّ مُبْتَدِعٍ بَلْ يَقُولُونَ بِإِيمَانِ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ الَّتِي فَسَّرُوا بِهَا الْفِرَقَ، وَذَكَرَ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالًا فِي الْحَدِيثِ وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَلاسيما آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَآيَةِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [153] الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ رَجَّحَ مَا كُنَّا نَرَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي النَّارِ مَا عَدَا الْجَمَاعَةَ الْمُلْتَزِمَةَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كُلَّهَا خَالِدَةٌ خُلُودَ الْكُفَّارِ بَلْ هِيَ مُطْلَقَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَنْ يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّهُ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ، وَمِنْهَا مَنْ يُعَذَّبُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَقَطْ، وَلَا يَخْلُدُ فِي الْعَذَابِ خُلُودَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الْجَاحِدِينَ لِبَعْضِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ عَقَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلَ فِي أَبْحَاثٍ مُهِمَّةٍ كَبَحْثِ عَدِّ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ وَعَدَمِهِ، وَمَا قِيلَ فِي عَدَدِهَا وَتَعْيِينِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْسُنُ بِطَالِبِ التَّحْقِيقِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَالْمُشْكِلَاتِ فِي الْحَدِيثِ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ (مُحَمَّدِ بْنِ أَسْعَدَ الصَّدِيقِيِّ) لِلْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ، وَعَدَّ مَا أَطَالَ بِهِ إِيجَازًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَّسِعُ لَهُ الْمَقَامُ. قَالَ فِي أَوَّلِهِ:
لابد أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ مُوجَزٍ فَاسْمَعْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ أَفَادَنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ فِرَقٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا الَّتِي عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ. وَكَوْنُ الْأُمَّةِ قَدْ حَصَلَ فِيهَا افْتِرَاقٌ عَلَى فِرَقٍ شَتَّى تَبْلُغُ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا تَبْلُغُهُ ثَابِتٌ قَدْ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ وَكَوْنُ النَّاجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةً أَيْضًا حَقٌّ لَا كَلَامَ فِيهِ فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، هُوَ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ، فَإِنَّ مَا خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ فَهُوَ رَدٌّ، وَأَمَّا تَعْيِينُ أَيِّ فِرْقَةٍ هِيَ النَّاجِيَةَ أَيِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى مَا (كَانَ) النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِي إِلَى الْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ يُذْعِنُ لِنَبِيِّنَا بِالرِّسَالَةِ تَجْعَلُ نَفْسَهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّ مِيرْبَاقِرَ الدَّامَادْ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْفِرْقِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ هِيَ فِرَقُ الشِّيعَةِ وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهُمْ فِرْقَةُ الْإِمَامِيَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ فَجَعَلَهُمْ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ فَكُلٌّ يَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ وَيُقِيمُ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً:
ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَمْثِلَةً مِمَّا يَقُولُهُ فَلَاسِفَةُ الْمُسْلِمِينَ وَصُوفِيَّتُهُمْ وَأَشْهَرُ فِرَقِهِمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ غَيْرَهُمْ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِجَهْلِ أَكْثَرِهِمْ بِالنُّقُولِ. وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى النَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَعْقُولَ. ثُمَّ قَالَ: فَكُلٌّ يُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّهُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَتَى رَأَتْ مِنَ النُّصُوصِ مَا يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَتْ أَخَذَتْ فِي تَأْوِيلِهِ وَإِرْجَاعِهِ إِلَى بَقِيَّةِ النُّصُوصِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهَا، فَكُلٌّ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ وَكُلٌّ مُطْمَئِنٌّ بِمَا لَدَيْهِ وَيُنَادِي نِدَاءَ الْمُحَقِّقِ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ. وَالْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ. فَإِنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ قَدْ جَاءَتْ وَانْقَرَضَتْ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ الْآنَ مِنْ غَيْرِ النَّاجِيَةِ، أَوْ أَنَّ الْفِرَقَ الْمُرَادَةَ لِصَاحِبِ الشَّرِيعَةِ لَمْ تَبْلُغِ الْآنَ الْعَدَدَ. أَوْ أَنَّ النَّاجِيَةَ إِلَى الْآنَ مَا وُجِدَتْ وَسَتُوجَدُ. أَوْ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْفِرَقِ نَاجِيَةٌ حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ مُطَابِقٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ لَنَا عَنْهُمْ كَالْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ عَنْهُمْ عِلْمَ الْيَقِينِ وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَأَنَّ بَقِيَّةَ الْفِرَقِ سَتُوجَدُ مِنْ بَعْدُ أَوْ وُجِدَ مِنْهَا بَعْضٌ لَمْ يُعْلَمْ أَوْ عُلِمَ كَمَنْ يَدَّعِي أُلُوهِيَّةَ عَلِيٍّ كَفِرْقَةِ النُّصَيْرِيَّةِ. وَمُوجَبُ هَذَا التَّرَدُّدِ أَنَّهُ مَا مِنْ فِرْقَةٍ إِلَّا وَيَجِدُهَا النَّاظِرُ فِيهَا مُعَضَّدَةً بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِجْمَاعٍ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَالنُّصُوصُ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ مِنَ الْأَطْرَافِ. وَمِمَّا يَسُرُّنِي مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ.
وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الْأُسْتَاذِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ تَأْلِيفِهِ لِهَذِهِ الْحَاشِيَةِ أَيَّامَ اشْتِغَالِهِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فِي الْأَزْهَرِ مُمْتَازًا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَعَدَمِ التَّقْلِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّعَصُّبِ، مَعَ الْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنْقُصُهُ سَعَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِذًا لَجَزَمَ بِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَعُلَمَاءُ الْأَثَرِ، الْمُهْتَدُونَ بِهَدْيِ السَّلَفِ، وَأَنَّهُمْ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخَرِينَ وَلَا تَزَالُ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَتْبَاعَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ. سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ضَرَّ وَمَنْ نَفَعَ وَلَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ كَلَامَ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُؤَوِّلُونَ شَيْئًا مِنْهُمَا لِيُوَافِقَ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ أَوْ يُؤَيِّدَ عَالِمًا مِنَ الْعُلَمَاءِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى تِلْكَ الْمَذَاهِبِ قَدْ وَصَلَ بِاجْتِهَادِهِ إِلَى الْحَقِّ فَصَارَ مِنْهُمْ وَإِذًا لَمَا سَرَّهُ حَدِيثُ أَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ رِوَايَةٌ. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى تَوَغَّلَ فِي مَذَاهِبِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ جَمِيعًا فَهَدَاهُ اللهُ بِإِخْلَاصِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا. وَالرُّجُوعُ عَمَّا خَالَفَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ تَدْرِيجًا. وَإِنَّنَا نَرَاهُ هُنَا قَدْ أَوْرَدَ عَلَى تَحْقِيقِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ إِشْكَالَاتٍ.
خَامِسُهَا إِجْمَاعُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وَكَوْنِهِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الِاعْتِمَادِ عَلَى تِلْكَ الْقَضَايَا النَّظَرِيَّةِ الَّتِي تَوَاضَعَ عَلَيْهَا أَئِمَّةُ كُلِّ طَائِفَةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ، وَعَدَّ هَذَا تَعَصُّبًا مِنْ أَتْبَاعِ كُلِّ رَئِيسٍ وَأَخْذًا بِأَسْبَابِ الْعَنَتِ. ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ:
الْحَقُّ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاظِرُ الْمُتَدَيِّنُ إِلَى إِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الصَّحِيحَةِ عَلَى إِثْبَاتِ صَانِعٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ، ثُمَّ مِنْهُ إِلَى إِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ، ثُمَّ يَأْخُذُ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّسْلِيمِ بِدُونِ فَحْصٍ فِيمَا تَكِنُّهُ الْأَلْفَاظُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ طَرِيقَ التَّحْقِيقِ فِي تَأْسِيسِ جَمِيعِ عَقَائِدِهِ بِالْبَرَاهِينِ الصَّحِيحَةِ، كَانَ مَا أَدَّتْ إِلَيْهِ مَا كَانَ، لَكِنْ بِغَايَةِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ إِذَا فَاءَ مِنْ فِكْرِهِ إِلَى مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ فَوَجَدَهُ يُظَاهِرُهُ مُلَائِمًا لِمَا حَقَّقَهُ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلْيَطْرُقْ عَنِ التَّأْوِيلِ وَيَقُولُ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [3: 7] فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ وَنَبِيِّهِ إِلَّا اللهُ وَنَبِيُّهُ، فَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ يَكُونُ نَسْجُهُ فَيَبُوءُ مِنَ اللهِ بِرِضْوَانٍ حَيْثُ أَسَّسَ عَقَائِدَهُ عَلَى السَّدِيدِ مِنَ الْبَرَاهِينِ، وَاسْتَقْبَلَ الْأَخْبَارَ الْإِلَهِيَّةَ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَتَنَاوَلَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَإِنْ أَرَادَ التَّأْوِيلَ لِغَرَضٍ كَدَفْعِ مُعَانِدٍ، أَوْ إِقْنَاعِ جَاحِدٍ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ إِذَا سَلِمَ بُرْهَانُهُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّشْوِيشِ وَهَذَا هُوَ دَأْبُ مَشَايِخِنَا كَالشَّيْخِ الْأَشْعَرِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ وَمَنْ مَاثَلَهُمْ، لَا يَأْخُذُونَ قَوْلًا حَتَّى يُسَدِّدُوهُ بِبَرَاهِينِهِمُ الْقَوِيَّةِ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مَا يُعْنَى بِاسْمِ السُّنِّيِّ وَالصُّوفِيِّ وَالْحَكِيمِ، وَكُلُّ مُتَحَزِّبٍ مُجَادِلٍ فَإِنَّمَا يَبْغِي الْعَنَتَ وَتَشْتِيتَ الْكَلِمَةِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَكُلُّ مُقَصِّرٍ فَعَلَيْهِ الْعَارُ وَالشَّنَارُ، فَاسْلُكْ سَبِيلَ السَّلَفِ، وَاحْذَرْ فَقَدْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، وَلابد فِي كَمَالِ النَّجَاةِ وَنَيْلِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ تَكْمِيلُ قُوَّةِ النَّظَرِ وَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْعَدْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ إِذْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْهِمَّةِ وَالسَّدَادِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ فِيمَا يَأْخُذُ وَيُعْطِي، فَهُوَ فِي النَّارِ أَوْ يَطْهُرُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ، وَسَالِكُ هَذَا الطَّرِيقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سُلُوكُهُ مِنْ قِبَلِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ أُولِي الْفَضْلِ مِنَ الرَّاشِدِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَذَلِكَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيُّ وَالْمُؤْمِنُ الْمُتَوَسِّطُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ سَلَكَ بِنَفْسِهِ مَدَارِجَ الْأَنْوَارِ وَوَقَفَ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَسْرَارِ حَتَّى جَلَسَ فِي حَيَاتِهِ هَذِهِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَهُوَ الصُّوفِيُّ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى وَالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى، وَفِي هَذَا مَرَاتِبُ لَا تُحْصَى وَمَرَاقٍ لَا تُسْتَقْصَى، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَشْمَلُهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ. فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا النُّورِ فَلَهُ النَّجَاةُ وَالْحُبُورُ كَانَ مَنْ كَانَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ وَلْنُمْسِكِ الْقَلَمَ حَيْثُ إِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِيجَازُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَاسْلُكْ بِنَفْسِكَ طَرِيقَ السَّدَادِ وَانْظُرْ فِيمَا يَكُونُ لَكَ بِعَيْنِ الرَّشَادِ اهـ.